فصل: سبب مخالفة قاني باي وغيره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في هذا اليوم قدم الأمير جانبك المحمودي المتوجه بتقليد قاني باي الحمزاوي بنيابة طرابلس بعد أن وصل إلى الرملة ولم يتمكن من التوجه إلى حماة خوفًا من إينال الجكمي فأثار عند قدومه إلى القاهرة شرورًا كبيرة فإنه زعم أنه ظفر بكتب جماعة من الأمراء وغيرهم إلى العصاة ببلاد الشام أوقف عليها السلطان فتعجب السلطان من ذلك غاية العجب فإنه كان من يوم جلس على تخت الملك ويده ممدودة بالإحسان لكل أحد حتى إنه ترقى في أيامه إلى الوظائف السنية والإقطاعات الهائلة جماعة من الأوباش لم يكن لهم ذكر بين الناس قبل ذلك وفيهم من لم أره قبل تاريخه ولا أعرف شكله جملة كافية وصار منهم السقاة ورؤوس نوب الجمدارية وبجمقدارية وسلاح دارية وغير ذلك وأثرى منهم جماعة ممن كان غالب معيشته بالشحاذة والتكدي لكثرة ما أغدق عليهم الملك الظاهر جقمق بالعطاء وصار ينعم عليهم بالأقمشة الفاخرة حتى إنه رهب لبعضهم الكوامل المخمل المنقوشة بأطواق السمور وبالطرز الزركش العريضة وهو مستمر على ما هو عليه ليوم تاريخه فلما وقف على الكتب قال‏:‏ هذه مفتعلة ولم ينتقم على أحد وأخذ فيما هو فيه من تجهيز العساكر‏.‏

فرار الملك العزيز ثم أصبح من الغد في يوم الاثنين سلخه عملت الخدمة بالقصر على العادة وبينما هو في ذلك بلغه من الأمير قراخجا الحسني رأس نوبة النوب فرار الملك العزيز يوسف من محبسه بدور قلعة الجبل - أعني سكنه فإنه كان سكن بقاعة البربرية من الحريم السلطاني - فاستبعد السلطان ذلك وندب بعض خواصه أن يتوجه إلى الأمير فيروز الزمام ويسأله عن صحة هذا الخبر‏.‏

فمضى المذكور لفيروز وسأله عن لسان السلطان فأنكر فيروز ذلك ودخل من وقته فلم يجد العزيز في مكانه ووجد نقبًا بقاعة البربرية يتوصل منه إلى المطبخ السلطاني فعاد القاصد بصحة الخبر على السلطان‏.‏

فلما تحقق السلطان ذهاب الملك العزيز كادت روحه أن تزهق وعظم عليه الخبر ونسي ما كان فيه من أمر إينال الجكمي وتغري برمش‏.‏

وعرف السلطان الأمراء وأكابر الدولة بذلك فما منهم إلا من ظهر عليه الخوف والفزع‏.‏

وماجت المملكة وكثر الكلام واختلفت الأقاويل في أمر الملك العزيز وفراره وفي أين توجه‏.‏

وكان من خبر العزيز - على اختلاف النقول - أن الملك العزيز لما حبس بقاعة البربرية من الدور السلطانية أقر الملك الظاهر عنده دادته سر النديم الحبشية ومعها عدة جوار أخر سراري الملك العزيز ومرضعته أيضًا ورسم لمرضعته أنها تخرج إلى حيث شاءت وجعل القائم في خدمة الملك العزيز لقضاء حوائجه طواشيًا هنديًا من عتقاء أمه خوند جلبان يسمى صندلًا وسنه دون العشرين سنة‏.‏

فصار صندل المذكور يتقاضى حوائج العزيز ويقبض له ما رتب له من النفقة من أوقاف أبيه فاحتوى صندل على جميعأمور الملك العزيز وعرف جميع أحواله‏.‏

وكان عند الطواشي يقظة ومعرفة وبقي كلما بلغه عن الملك العزيز شيء يبلغه له‏.‏

فأشيع بالقاهرة أن السلطان يريد يرسل الملك العزيز إلى سجن الإسكندرية ثم أشيع أنه يريد أن يكحله فبلغه صندل المذكور جميع ذلك فخاف العزيز خوفًا عظيمًا‏.‏

ثم بلغه أن بعض علماء العصر أفتى بقتل العزيز صيانة دماء المسلمين من كونه مخلوعًا عن الملك وله شوكة والملك الظاهر متول ولم يكن له شوكة فإن أبقي على العزيز ربما تثور شوكته ويقاتل السلطان فيقع بذلك الفساد وتسفك دماء كثيرة من المسلمين‏.‏

فلما بلغ العزيز ذلك - على ما قيل - حار في أمره فحسن له صندل المذكور الفرار فاستبعد العزيز وقوع ذلك ثم وافقه‏.‏

وكان للملك العزيز طباخ يسمى إبراهيم من أيام والده فداخله صندل في الكلام بفرار العزيز فأجابه إبراهيم المذكور أنه ينهض بذلك ويقدر على خروجه من القلعة بحيلة يدبرها‏.‏

ثم أمر إبراهيم الطباخ صندلًا أن ينقب من داخل القلعة نقبًا يصل إلى المطبخ المذكور وأن إبراهيم ينقب من خارج المطبخ مقابله‏.‏

فأمر العزيز جواريه بالنقب من داخل القلعة مساعدة للطباخ حتى تهيأ ذلك‏.‏

وتم هذا وصندل يتحدث مع جماعة من المماليك الأشرفية في مساعدة الملك العزيز إذا خرج ونزل من القلعة فمال إلى ذلك جماعة‏:‏ منهم طوغان الزردكاش وأزدمر مشد الملك العزيز أيام أبيه في آخرين من المماليك الأشرفية وبذلوا لصندل الطاعة في ذلك ورغبوه في نزول الملك العزيز إليهم واستحثوه على ذلك‏.‏

وتكلم طوغان الزردكاش مع جماعة أخر من الأشرفية فمال الجميع إلى نزوله إليهم مع عدم الاتفاق مع أكابر الأشرفية ولا تشاوروا في ذلك بل صاروا يحرضون صندلًا على نزوله ولم يعينوا له مكانًا يجلس فيه إلى أن يفعلوا له ما هو قصدهم فلم يعرف صندل العزيز ذلك بل صار يمليه بخلاف الواقع إلى أن انتهى النقب المذكور‏.‏

فلما كان الإفطار من ليلة الاثنين سلخ شهر رمضان من سنة اثنتين وأربعين والناس في شغل بالصلاة والفطر أخرج الطباخ الملك العزيز من النقب عريانًا مكشوف الرأس فألبسه الطباخ من ثيابه ثوبًا مملوءًا بسواد القدور والأوساخ وحمله قدرًا فيه طعام وقيل صحنًا فيه منفوع الطباخين من الطعام يوهم الطباخ بذلك أنه صبيه ثم جعل على يده خافقية فيها طعام وغير وجه الملك العزيز ويديه بالزفر وسواد القدور‏.‏

وخرجا جميعًا من غير هرج ولا اضطراب ولا خوف حتى وصلا إلى باب القلعة فوافاهم الأمراء والخاصكية وقد خرجوا بعد إفطارهم من عند السلطان‏.‏

فلما رأى إبراهيم الطباخ الأمراء والخاصكية خاف أن يفطن به أحد لجمال وجهه وحسن سمته ولما عليه من الرونق فضربه ضربة بيده وسبه يريد بذلك أنه صبيه ويستحثه على سرعة الحركة والمشي ليرد الوهم عنه بذلك‏.‏

فأسرع الملك العزيز في المشي وسارا حتى نزلا من قلعة الجبل فإذا صندل وطوغان الزردكاش وأزدمر مشد العزيز في آخرين واقفين في انتظاره‏.‏

فحال ما رأوه قبلوا يده وأخذوه إلى دار بعضهم فأنكر العزيز ذلك منهم ونهر صندلًا الطواشي وقال‏:‏ ‏"‏ ما على هذا أنزلت ‏"‏ وكان في ظن العزيز أنه ساعة ما ينزل إليهم يأخذوه ويركبون به إلى جهة قبة النصر أو غيرها بمجموعهم ويقاتلون السلطان الملك الظاهر حتى يملكوا منه القلعة على ما كان صندل يقول له مثل ذلك‏.‏

وأراد العزيز العود إلى مكانه بالقلعة فلم يمكنه ذلك‏.‏

وقام طوغان في منعه ووعده بقيام جميع خشداشيته من الأشرفية بنصرته وأنهم اتفقوا على ذلك وأنهم إلى الآن لم يصدقوا بنزول الملك العزيز فإذا علموا ذلك اجتمع الكل في القيام بنصرة الملك العزيز فإن لم يفعلوا ذلك أخذه هو وسار به إلى بلاد الصعيد عند الأمير يشبك السودوني أمير سلاح المجرد قبل تاريخه لقتال عرب الصعيد وكان صحبة يشبك جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية نحو سبعمائة مملوك مع ميل يشبك إلى الأشرفية في الباطن لكونه كان ممن أنشأه الملك الأشرف برسباي ثم افترقوا واختفى الملك العزيز ومعه صندل وأزدمر وإبراهيم الطباخ في مكان ليلته ثم تنقل في عدة أماكن أخر‏.‏

وأخذ طوغان في الكلام مع خجداشيته الأشرفية في القيام بنصرة ابن أستاذهم الملك العزيز فاعتلوا بأن غالبهم قد توجه إلى بلاد الصعيد ولم يجيبوا له دعوة‏.‏

فلما علم منهم ذلك ركب هجنًا وسار إلى بلاد الصعيد لإعلام الأمير يشبك والمماليك الأشرفية بنزول الملك العزيز إليه‏.‏

ودخل جماعة كبيرة منهم إلى الأمير إينال الأبوبكري الأشرفي وكلموه في القيام بنصرة ابن أستاذه فخاف العواقب ولم يوافقهم وتسحب من داره على بغل ثم نزل ماشيًا واختفى‏.‏

هذا ما بلغنا من أفواه الناس فإني لم أجتمع مع إينال المذكور بعد ذلك هذا والسلطان وحاشيته قد عظم قلقهم وصار السلطان لا يعلم أين ذهب الملك العزيز ولم يشك هو وغيره أن الأمير إينال الأبوبكري أخذ العزيز على هجنه المجهزة لسفر الحجاز فإنه كان ولي إمرة الحاج وسار إلى الأمير إينال الجكمي‏.‏

قلت‏:‏ ولو فعل إينال ذلك لكان تم له ما قصد لكثرة هجنه ورواحله وعظم حواشيه من خجداشية وغيرهم وكان ذلك هو الرأي فحسن الله له غير ذلك حتى يصل كل موعود إلى ما وعد‏.‏

كل ذلك في يوم سلخ رمضان‏.‏

فلما كان الليل وهي ليلة عيد الفطر التي تسحب فيها إينال المذكور تفرقت المماليك المؤيدية وغيرهم إلى طرقات القاهرة ودار منهم طائفة كبيرة حول القلعة وبالقرب من بيت إينال المذكور مخافة أن يخرج إينال في الليل بالملك العزيز‏.‏

وكثر هرج الناس في تلك الليلة وتخوفوا من وقوع فتنة من الغد‏.‏

ومضت تلك الليلة على أبشع وجه من اضطراب الناس‏.‏

وتخوفهم وأصبح السلطان صلى صلاة العيد بجامع القلعة وهو على تخوف وقد وقف جماعة بالسلاح مصلتًا رأسه حتى قضى صلاته‏.‏

وخطب قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر وأوجز في خطبته كما أسرع في صلاته‏.‏

وعندما فرغ من الخطبة وصل الخبر للسلطان إن الأمير إينال تسحب في الليل فعظم الخطب‏.‏

فلما علم السلطان بتسحب إينال أمر فنودي بالقاهرة أن لا يتخلف أحد من المماليك عن الخدمة وهدد من تخلف بالقتل‏.‏

فلما طلعوا قبض على جماعة من المماليك الأشرفية‏.‏

ثم نودي أيضًا في الناس بإصلاح الدروب وغلقهم أبواب دورهم وأن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة وصارت أبواب القاهرة تغلق قبل عادة إغلاقها من الليل فكانت ليلة هذا العيد ويومه وثانيه من الأيام النكدة البشعة‏.‏

ثم في يوم الخميس ثالث شوال خلع السلطان على الأمير تنبك البردبكي أحد مقدمي الألوف باستقراره أمير حاج المحل عوضًا عن إينال المذكور بحكم تسحبه وخلع على قراجا الناصري الخاصكي البواب باستقراره والي القاهرة بعد عزل علاء الدين علي بن الطبلاوي وخلع على الأمير ممجق النوروزي أحد أمراء العشرات باستقراره في نيابة قلعة الجبل عوضًا عن تنبك المستقر في إمرة حاج المحمل‏.‏

وفيه أيضًا أمسك السلطان جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية‏.‏

ثم في يوم الجمعة رابع شوال سار عسكر من الخاصكية إلى جهة الغربية تزيد عدتهم على سبعين فارسًا لمسك الأمير قراجا الأشرفي أحد مقدمي الألوف وكان ولي كشف الجسور الغربية‏.‏

فسار العسكر المذكور إلى جهة المحلة وبلغ قراجا ذلك فخرج إليهم وسلم نفسه فأخذ وقيد وحمل إلى الإسكندرية فسجن بها‏.‏

وأما السلطان فإنه أصبح في يوم السبت خامس شوال عزل الأمير أركماس الظاهري عن الدوادارية الكبرى وأخذت خيوله وخيول الأمير قراجا المقدم ذكره‏.‏

ثم في يوم الاثنين سابع شوال نودي بأن من وجد أحدًا من غرماء السلطان وطلع به فله خمسمائة دينار وإقطاع ومن غمز عليه أنه أخفى أحدًا منهم حل ماله ودمه هذا والمؤيدية قد تجردت للفحص عن الملك العزيز وعن المماليك الأشرفية في جميع الأماكن وقبضوا على جماعة من غلمانهم حتى دلوهم على أماكن بعضهم وصاروا يكبسون الدور والترب وديارات النصارى والبساتين وضواحي القاهرة ومصر ويمرون في الليل في الأزقة متنكرين فإنهم صاروا هم أكثر تخوفًا من السلطان على نفوسهم‏.‏

وسبب ذلك أن طائفة المماليك المؤيدية كانوا قاموا مع السلطان الملك الظاهر في أمر سلطنته أتم قيام مع من ساعدهم من جميع الطوائف غير أنهم كانوا هم أشد بأسًا في ذلك فلما تسلطن الملك الظاهر عرف لهم ذلك ورقاهم وقربهم حتى صاروا هم عقد المملكة وحلها وتحكموا في الدولة وأخرجوا المماليك الأشرفية من الديار المصرية إلى السجون وإلى الثغور وإلى البلاد وأهانوهم بعد عزهم واتضع جانبهم بعد رفعتهم‏.‏

فلما وقع لهم ذلك جدوا في الإغراء بالملك العزيز وقتله خوف العواقب فلم يسمع لهم السلطان‏.‏

فحسنوا له أن يكحله فلم يوافق أيضًا على ذلك‏.‏

فلما ثار الأمير إينال الجكمي نائب الشأم ودعا للملك العزيز وكان تغري برمش نائب حلب أيضًا أعظم ميلًا للملك العزيز لكونه نشء والده الملك الأشرف برسباي تحققت المؤيدية أنهم مقتولون أشر قتلة إن ملك العزيز ثانيًا وصار لشوكته دولة‏.‏

فحرضوا عند ذلك السلطان على قتله واستفتوا العلماء في ذلك فكتب بعضهم على قدر ما أنهى له في الفتوى وامتنع البعض‏.‏

ثم اشتهر بالقاهرة أنه إذا فرغ شهر رمضان يفعل بالعزيز ما هو القصد وتكلم الناس بذلك‏.‏

واتفق فرار العزيز إما لما بلغه هذا الخبر أو لمعنى آخر وأكثر قول الناس إنه لم يفر إلا لما خامر قلبه من الخوف والله أعلم‏.‏

ثم لما بلغ إينال الأشرفي خبر العزيز وتسحبه واستدعته خجداشيته بالقيام في نصرة ابن أستاذه فلم يوافق وخاف إن طلع القلعة من الغد يمسك اختفى‏.‏

فلما أصبح النهار وبلغ السلطان والناس فرار العزيز وتسحب إينال لم يشك الناس في أن إينال أخذ العزيز ومضى إلى إينال الجكمي‏.‏

ثم اختلفت الأقوال فعند ذلك علموا المؤيدية أنهم أشرفوا على الهلاك وأنهم ركبوا الأخطار فيما فعلوه في أمر الملك العزيز فحينئذ جدوا في الفحص عن أمره لبقاء مهجتهم لا لنصرة الملك الظاهر جقمق‏.‏

وصار الملك الظاهر يأخذ النار بيد غيره وهو فيما هو فيه من تجهيز العساكر لقتال الجكمي وتغري برمش‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء ثامن شوال أنعم السلطان بإقطاع الأمير قراجا الأشرفي على ولده المقام الناصري محمد وصار محمد المذكور من جملة أمراء الألوف واجلس تحت الأمير جرباش الكريمي أمير مجلس وهذا بخلاف العادة فإن العادة جرت من دولة الملك الظاهر برقوق إلى يومنا هذا أن ابن السلطان لا يجلس إلا رأس الميسرة فوق أمير سلاح فكلمه الأمراء في ذلك فلم يرض‏.‏

وما فعل الملأ الظاهر هذا الأمر وأمثاله إلا لعدم ثبات ملكه ولاضطراب دولته بسبب خروج النواب عن الطاعة وأيضًا تسحب العزيز - انتهى‏.‏

ثم أنعم السلطان بإقطاع إينال الأشرفي الأبوبكري على الأمير جرباش الكريمي قاشق وأنعم بإقطاع جرباش على الأمير شادبك الجكمي المعزول عن نيابة الرها وهو يوم ذاك أحد أمراء الطبلخاناة وإقطاع جرباش والذي أخذه كلاهما تقدمة ألف غير أن الخراج يتفاوت بينهما‏.‏

وأنعم السلطان بإقطاع أركماس الظاهري على الأمير أسنبغا الطياري الدوادار الثاني وأنعم بإقطاع شادبك على الأمير جرباش المحمدي الناظري المعروف بكرد وأنعم بإقطاع الأمير أسنبغا الطياري على الأمير دولات باي المؤيدي الأمير آخور الثاني وكلاهما طبلخاناة‏.‏

كل ذلك والقبض على الأشرفية مستمر مع الكتابة إلى الأعمال بأخذ الطرقات عليهم برًا وبحرًا والسلطان يستحث آقبغا التمرازي نائب الشام على السفر في كل قليل‏.‏

فلما كان يوم الخميس عاشر شوال برز آقبغا التمرازي بمن معه من القاهرة إلى الريدانية بعد أن خلع عليه السلطان خلعة السفر‏.‏

فلما لبسها وجاء إلى السلطان ليقبل يده قام له السلطان واعتنقه فمسك آقبغا يده وقال له‏:‏ ‏"‏ يا خوند لا تغير نيتك ‏"‏ فقال السلطان‏:‏ ‏"‏ لا والله ‏"‏‏.‏

ثم تأخر بخلعته ووقف على ميمنة السلطان لأن السلطان كان شرط له أن لا يخرج عنه إقطاع الأتابكية ووظيفتها إلى أن ينظر في أمر الجكمي ما سيكون فلهذا المقتضى وقف آقبغا في منزلة الأتابكية على ميمنة السلطان وكان حقه الوقوف على الميسرة كما هي عادة منازل نواب دمشق مع أن الأمير يشبك السودوني أمير سلاح ترشح للأتابكية وهو مجرد ببلاد الصعيد وأخرجت وظيفة إمرة سلاح عنه في هذا اليوم ولكن بغياب يشبك فالأتابكية شاغرة‏.‏

ثم خلع السلطان بحضرة آقبغا المذكور على الأمير تمراز القرمشي الأمير آخور الكبير باستقراره أمير سلاح عوضًا عن يشبك السودوني وقد رشح يشبك للأتابكية عوضًا عن آقبغا التمرازي المذكور‏.‏

وخلع على الأمير قراخجا الحسني رأس نوبة النوب باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن تمراز القرمشي وهو يوم ذاك مقدم العساكر وأمر السلطان ولده المقام الناصري محمدًا بسكنى الحراقة من باب السلسلة إلى أن يعود الأمير قراخجا الحسني من سفره بالبلاد الشامية ونزل تمراز القرمشي من باب السلسلة في يومه‏.‏

وخلع السلطان على الأمير تغري بردي البكلمشي المعروف بالمؤذي حاجب الحجاب باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن أركماس الظاهري‏.‏

واستقر الأمير تنبك البردبكي أمير حاج المحمل حاجب الحجاب غير أنه لم يلبس خلعة الحجوبية في هذا اليوم‏.‏

ثم خلع السلطان على الأمير تمرباي التمربغاوي المعزول عن نيابة الإسكندرية باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن قراخجا الحسني بحكم انتقاله أمير آخور وتمرباي هذا أيضًا ممن عين لسفر التجريدة‏.‏

ثم خلع السلطان على دولات باي المحمودي الساقي المؤيدي الأمير آخور الثاني باستقراره دوادارًا ثانيًا عوضًا عن أسنبغا الطياري وخلع السلطان على الأمير جرباش المحمدي كرد باستقراره أمير آخور ثانيًا بعد دولات باي المؤيدي فامتنع جرباش المذكور من قبول ذلك لكونه يدي الأمير آخورية الثانية عن دولات باي وهو أقل منة رتبة حتى استعطفه السلطان وقرره على رتبته‏.‏

ونزل آقبغا وقراخجا وتمرباي - الجميع بخلعهم - إلى مخيمهم بالريدانية حسبما تقدم ذكره ثم تبعتهم العساكر المجردة من المماليك السلطانية وأمراء الطبلخانات والعشرات وغيرهم‏.‏

وفي هذا اليوم قدم الأمير يونس الركني الأعور أحد مقدمي الألوف بدمشق فارًا من إينال الجكمي فأكرمه السلطان وأنعم عليه بزيادة جيدة على إقطاعه وتقدمته بدمشق‏.‏

وأقام آقبغا التمرازي بالريدانية إلى يوم السبت ثاني عشر شوال فرحل منها واستقل بالمسير إلى الشام‏.‏

وفي يوم السبت هذا نفى السلطان إمام الملك الأشرف نور الدين عليًا السويفي إلى دمياط‏.‏

ثم في يوم الاثنين رابع عشر شوال رحل الأمير قراخجا الحسني الأمير آخور الكبير والأمير تمرباي التمربغاوي رأس نوبة النوب بمن معهما من الأمراء والمماليك السلطانية من الريدانية إلى جهة الشام‏.‏

وفيه ورد الخبر على السلطان بأن إينال الجكمي برز بمخيمه من مدينة دمشق إلى ظاهرها‏.‏

فلما كان يوم الخميس ثالث شوال المذكور عزم هو على الخروج من المدينة بنفسه إلى مخيمه ليسير بمن معه إلى نحو الديار المصرية‏.‏

فبينما هو في ذلك ركب عليه الأمير قاني باي الأبوبكري الناصري البهلوان أتابك دمشق وكان ممن وافق الجكمي على العصيان وحسن له ذلك ثم تركه ومال إلى جهة السلطان وركب معه الأمير برسباي الناصري حاجب الحجاب بدمشق وجميع أمراء دمشق وعساكرها ولم يبق مع إينال من أعيان أمراء دمشق إلا جماعة يسيرة مثل الأمير قنصوه النوروزي أحد مقدمي الألوف بدمشق والأمير تنم العلائي المؤيدي الدوادار أحد أمراء الطبلخانات بدمشق والأمير بيرم صوفي أحد الطبلخاناة بدمشق أيضًا والأمير مسروق أخو الملك الظاهر ططر وجماعة أخر يسيرة جدًا أعيانهم من ذكرناه‏.‏

فلما بلغ إينال الجكمي ركوب هؤلاء عليه مال عليهم وقاتلهم فلم يثبتوا له وانهزموا أقبح هزيمة‏.‏

ثم تراجعوا فحمل عليهم فانكسروا وتمزقوا شذر مذر‏.‏

وطلع قاني باي البهلوان إلى قلعة دمشق في جماعة كبيرة من الأمراء وتوجه غيرهم إلى عدة أماكن‏.‏

وكان

 سبب مخالفة قاني باي وغيره

لإينال الجكمي بعد موافقتهم له أن السلطان أرسل ملطفات إلى قاني باي المذكور وغيره من أمراء دمشق يستميلهم إليه ووعدهم بأشياء كثيرة فلما سمعوا ذلك مالوا إليه وتركوا ما كان بينهم وبين إينال الجكمي من العهود والمواثيق ولم يستعبوا ذلك لكون أن هذا الغدر صار عادة لمن تقدمهم‏.‏

‏.‏

ولما كتب السلطان الملطفات المذكورة أرسلها إلى الأمير خشكلدي السيفي يشبك بن أزدمر وهو يوم ذاك نائب قلعة صفد فبعث بها خشكلدي المذكور على يد نصراني إلى بهاء الدين محمد بن حجي كاتب سر دمشق ففرقها بهاء الدين على أربابها‏.‏

فحال ما وقفوا عليها مالوا بأجمعهم إلا من ذكرناه ممن ثبت مع إينال وقالوا‏:‏ نحن وافقناه فلا نبرح عنه إلى الممات أو يقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

وكان أكثر من وعد من أمراء دمشق الأمير سودون أخو مامش المؤيدي والأمير تنم العلائي المؤيدي من خجداشيهما المؤيدية فلم يلتفتوا إلى كتبهم واستقبحوا الغدر والخيانة فلله درهما‏.‏

وأنا أقول‏:‏ أما طاعة السلطان فهي واجبة على كل أحد والعصيان ومخالفة السلطان لا يجوز ولا يستحسن‏.‏

لكن أيضًا يقبح بالرجل أن يدخل إلى ملك ويحسن له العصيان والثوران ولا يزال به حتى يقع في ذلك بعد أن يعطيه العهود والمواثيق على موافقته والقيام بنصرته ثم يتركه بعد تورطه ودخوله في ذلك لأجل النزر اليسير من حطام أو لتناوله ولاية من الولايات وعندي أن هذا لا يقع إلا من نذل ساقط الهمة والمروءة لا نخوة له والأنفس الكريمة تأبى ذلك ولو مسهم الضر والرجل الفحل هو الثابت على قوله والمقر على طاعة سلطانه حفظًا لدينه ودنياه فإن لم يكن ذلك وأطاع شيطانه وركب هواه فليتم على ما قصده من ركوب الأهوال واقتحام الخطوب وهجوم الحروب فإما وإما وما أحسن قول عنترة في ذلك حيث يقول‏:‏ الوافر أروم من المعالي منتهاها ولا أرضى بمنزلة دنيه فإما أن أشال على العوالي وإما أن توسدني المنيه فلما وصل هذا الخبر إلى السلطان سر بذلك ودقت البشائر بالديار المصرية‏.‏

ثم ورد الخبر على السلطان من بلاد الصعيد أن الأمير يشبك أمير سلاح انتهى بمن معه من العساكر السلطانية في طلب عرب هوارة إلى مدينة إسنا فلم يقع بهم وأنه رجع بالعساكر إلى مدينة هو فقدم عليه بها من المشايخ الصلحاء جماعة ومعهم طائفة من مشايخ هوارة راغبين في دخول الطاعة للسلطان وحلفوا على ذلك وأنه قدم عليهم بعد ذلك في يوم الأحد سادس شوال طوغان الأشرفي الزردكاش أحد الدوادارية الصغار ودعا العسكر إلى طاعة الملك العزيز والقيام بنصرته وذكر لهم أنه خرج من محبسه بقلعة الجبل ونزل إلى القاهرة واجتمع عليه جماعة من مماليك أبيه وأنه رآه بعينه ووعده بالوثوب معه هو وخجداشيته الأشرفية وأنه أمره أن يختفي فاختفى حتى ينتظم أمره بعود مماليك أبيه من بلاد الصعيد‏.‏

ثم حرضهم طوغان على ذلك فمال منهم طائفة وتخوفت طائفة‏.‏

واضطرب العسكر قليلًا إلى أن اجتمع الجميع على طاعة السلطان بعد أمور صدرت وحلفوا أنهم مقيمون على الطاعة‏.‏

فدقت البشائر لذلك وخلع على الواصل بهذا الخبر وأجيب الأمير يشبك بالشكر وبحمل طوغان المذكور في الحديد‏.‏

وكان علم السلطان قبل ذلك بتوجه طوغان المذكور إلى بلاد الصعيد وكتب إلى الأمير يشبك وإلى حكام الصعيد بحمله في الحديد‏.‏

ثم ورد الخبر بعد ذلك من الأمير يشبك بأنه نازل على مدينة سيوط وأن يونس الخاصكي ورد عليه بمرسوم شريف يتضمن القبض على طوغان المذكور وأن المماليك الأشرفية لم يمكنوه من ذلك فكثر قلق السلطان والدولة لورود هذا الخبر وخشوا وقوع فتنة ظنًا من المماليك الأشرفية أنهم من هذا القبيل ورسم السلطان في هذا اليوم بخروج الأمير أركماس - المعزول عن الدوادارية قبل تاريخه - إلى ثغر دمياط بطالًا‏.‏

ثم أخذ السلطان وحواشيه في الفحص عن الملك العزيز وكبست عدة أماكن وقبض على جماعة من المماليك الأشرفية‏.‏

وتزايد تحريض السلطان في طلب العزيز وقاسى الناس بسبب ذلك شدائد‏.‏

وكثرت الأراجيف بخروج الأمير يشبك أمير سلاح ومن معه من المماليك الأشرفية عن طاعة السلطان وأنهم عادوا يريدون القاهرة فمنعت المراكب من التعدية في النيل بكثير من الناس المتهمة بالخروج على السلطان هذا مع عظم التفتيش على العزيز والكبس على البيوت والبساتين والترب‏.‏

وغلقت بعض أبواب القاهرة نهارًا وأخذ أهل الدولة في الاستعداد للحرب‏.‏

هذا مع ما بالبلاد الشامية من الفتنة العظيمة من خروج نائب الشام ونائب حلب‏.‏

وصار السلطان في هذه الأيام في أشد ما يكون من القلق والتخوف وتكلم الناس بزوال ملكه‏.‏

فلما كان يوم السبت تاسع عشره برز أمير حاج المحمل الأمير تنبك بالمحمل وبعد خروجه من القاهرة قدم الخبر بالقبض على طوغان الزردكاش وحمله في الحديد ووصل طوغان المذكور في آخر النهار المذكور وكان أشيع الخبر بمسكه قبل ذلك فلم يصدقه أحد استبعادًا من تسليم خجداشيته له مع كثرتهم وشدة بأسهم‏.‏

وكان من خبر طوغان أنه لما نزل الملك العزيز من قلعة الجبل واجتمع به ووعده بالقيام معه توجه إلى الأمير إينال الأبوبكري الأشرفي فلم يحصل منه على طائل‏.‏

فمضى هو وجماعة إلى خجداشيتهم الأشرفية ووعدهم بالوثوب على الملك الظاهر والقيام بنصرة ابن أستاذهم فأجاب منهم طائفة كبيرة غير أنهم اعتذروا بغياب أعيانهم ببلاد الصعيد في التجريدة صحبة الأمير يشبك وأنهم في قلة لأن معظمهم بالصعيد وطلبوا منه أن يرسل يعلم خجداشيتهم بذلك فلم يجد لأحد منهم قوة للتوجه فقام هو بذلك بعد أن تحقق منهم الوثوب وخرج من القاهرة على الهجن‏.‏

وبلغ السلطان خبره فكتب بالقبض عليه في الطريق فلم يدركه أحد‏.‏

وسار حتى وصل إلى خجداشيته واجتمع بهم حسبما تقدم ذكره‏.‏

غير أنه أراد قضاء حاجته فأملى لخجداشيته أخبارًا في حق العزيز غير صحيحة يريد بذلك تمييز أمره فمالوا إلى كلامه‏.‏

فورد عليهم بعد ذلك الأخبار من المسافرين وغيرهم بهروب إينال واختفاء الملك العزيز على غير ما قاله له طوغان وأن الفحص على الملك العزيز في كل يوم مستمر فعند ذلك اختلفت كلمتهم على القيام بأمر العزيز وعلموا أن غالب كلام طوغان غير صحيح‏.‏

هذا والأمير يشبك يستميلهم إلى طاعة السلطان ويخوفهم عاقبة مخالف السلطان حتى أفضى به وبهم أن جمع عليه الكاشف بالوجه القبلي وعدة كبيرة مم عربان الطاعة وهم بمحاربتهم فلم يكن لهم طاقة بمحاربته مع ما تبين لهم من فساد أمرهم واختلاف كلام طوغان فأسلموه بعد أن كانوا انقلبوا جميعهم للخروج معه وهو أن طوغان لما جد في مسيره حتى وصل إليهم أعلمهم بأن الملك العزيز خرج من سجنه ونزل من القلعة واجتمع عليه خلائق من الأشرفية وغيرهم وأنه محاصر للملك الظاهر جقمق بقلعة الجبل فهيج هذا الكلام خواطرهم وتحركت كوامنهم وأجمعوا على القيام بنصرة ابن أستاذهم ومال إليهم كل أحد حتى الأمير يشبك في الباطن‏.‏

وكادت الفتنة تقوم ويظهر كل أحد الميل للملك العزيز فترادفت كف السلطان والقصاد بغير ما قاله طوغان فتوقفوا عما كانوا عزموا عليه‏.‏

ولا زال أمر الملك العزيز يتضح لهم حتى أسفرت القضية على أنه مختف وأن إينال تسحب فعند ذلك رجع كل أحد عما كان في ضميره وأظهر طاعة السلطان وأسلموا طوغان فقيد وحمل إلى القاهرة‏.‏

ولما طلع طوغان إلى القلعة حبس بها وأجري عليه أنواع العقوبة والعذاب المتلف وكسروا غالب أعضائه بالمعاصير وعوقب معه ثلاثة نفر من الخاصكية فلم يقر أحد منهم على غير ما قاله طوغان أن العزيز لما نزل من القلعة و إبراهيم الطباخ وقف بمكان بالمصنع بالقرب من قلعة الجبل واجتمع عدة من المماليك الأشرفية - وسماهم فكان غالبهم ممن لا يعرف - فأجمع رأيهم بأن يسيروا إلى الشام بالعزيز ثم انصرفوا عن هذا الرأي عجزًا وتوجه طوغان ليأتي بالمماليك الأشرفية من بلاد الصعيد‏.‏

فلما تحقق السلطان ذلك كف عن عقوبة طوغان بعد أن تلف وأخرجه في يوم الثلاثاء ثاني عشرين شوال محمولًا لعجزه عن الحركة من شدة العقوبة ومعه خير بك الأشرفي وقد عوقب أيضًا وحملا إلى الرميلة عند باب الميدان من تحت القلعة ووسط وكان أمر طوغان هذا من أعجب العجب فإنه كان في دولة أستاذه الأشرف زردكاشًا فلما مات الأشرف خالف خجداشيته وانتمى إلى الملك الظاهر جقمق قبل سلطنته مع الأمير إينال الأشرفي وصار خصيصًا عند الملك الظاهر وولاه دوادارًا وصار مقربًا عنده‏.‏

ثم استحال عن السلطان ودبر عليه وأخرج الملك العزيز وقام في أمره من غير موافقة أحد من أعيان خجداشيته ولا مشاورة أحد من أرباب العقول‏.‏

ولم يكن هو من هذا القبيل من سائر الوجوه فكان من فعله وتدبيره ما ساقه إلى حتفه وتدبيره‏.‏

وكان طوغان المذكور طوالًا غير لائق في طوله وعنده طيش وخفة مع جهل وعدم تثبت في أموره‏.‏

ولم يكن من أعيان الأشرفية ولا ممن يلتفت إليه في الدولة - انتهى‏.‏